بن عراق
02.06.2009, 05:17
السلام عليكم .. نرد اليوم على شبهة نصرانية تنص على أن هنالك تناقض وتعارض في القرآن بين الآيات التي أثبتت سؤال الكفار عن ذنوبهم والآيات التي نفت ذلك وهذا البيان والله المستعان:
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله عند تفسيره سورة الرحمن في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (7 / 503 و 504): قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه يوم القيامة لا يسأل إنسا ولا جانا عن ذنبه، وبين هذا المعنى في قوله تعالى في القصص: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
وقد ذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة الرسل والمرسل إليهم، وذلك في قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ, عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93].
وقد جاءت آيات من كتاب الله مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافا.
اعلم أولا: أن للسؤال المنفي في قوله هنا: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} ، وقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78], أخص من السؤال المثبت في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ, عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة، وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء.
الأول منها: وهو الذي دل عليه القرآن، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا، هو أن السؤال نوعان: أحدهما سؤال التوبيخ والتقريع وهو من أنواع العذاب، والثاني هو سؤال الاستخبار والاستعلام.
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام، لأن الله أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6].
وعليه فالمعنى: {لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} ، سؤال استخبار واستعلام لأن الله أعلم بذنبهم منهم.
والسؤال المثبت في الآيات الآخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:106]، ومثاله عن غير ذنب قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24-26], وقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً, هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ, أَفَسِحْرٌ هَذَا} الآية [الطور:13-15]، وقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130].
أما سؤال الموءودة في قوله: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8], فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الندب (1)، لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه، لأنها هي تقول لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلما.
وكذلك سؤال الرسل، فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته، وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضوع هذا الكتاب بيان القرآن بالقرآن، وقد بينا بقيتها في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في أول سورة الأعراف.
وقد قدمنا طرفا من هذا الكتاب المبارك في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].(إنتهى)
(1) قلت (انا بن عراق) : (الندب) كذا وقع في مطبوعه وهو تصحيف والصواب (الذنب) كما هو ظاهر جدا في السياق.
وكان العلامة الشنقيطي قد رد على الشبهة قبل ذلك عند تفسيره سورة الأعراف في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (2 / 6 و 7) إذ قال رحمه الله: قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات، أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين.
وأوضح هذا المعنى في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [21/11-15].
قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، حدثنا بذلك ابن حميد، حدثنا جرير عن أبي سنان، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، قال: قلت لعبد الله: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [7/5].
قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} ، لم يبين هنا الشيء المسؤول عنه المرسلون، ولا الشيء المسؤول عنه الذين أرسل إليهم.
وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم.
قال في الأول: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [5/109].
وقال في الثاني: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [28/65].
وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعملون، وهو قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [15/92، 93].
وهنا إشكال معروف: وهو أنه تعالى قال هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [7/6]، وقال أيضاً: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [37/24]، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [55/39].
وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، وسنزيده إيضاحاً هنا إن شاء الله تعالى.
اعلم أولاً: أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة، أخص من السؤال المثبت فيها؛ لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالاً عن ذنوب خاصة، فإنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، فخصه بكونه عن الذنوب، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}، فخصه بذلك أيضاً، فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والمؤودة مثلاً ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه؛ لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب، ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الآية [33/8]، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [5/116]، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} الآية [5/119]، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات: المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام؛ لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع؛ لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [37/24،25]، وقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [52/15]، إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور، والعلم عند الله تعالى. (إنتهى)
وقال الشنقيطي عند سورة الأعراف في كتابه دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (نسختي غير موافقة للمطبوع في ترقيم الصفحات) :
قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} الآية, هذه الآية الكريمة تدل على أن الله يسأل جميع الناس يوم القيامة ونظيرها قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ, عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}, وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ}، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}, وكقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو أوجهها لدلالة القرآن عليه وهو أن السؤال قسمان: سؤال توبيخ وتقريع, وأداته غالبا (لِمَ )، وسؤال استخبار واستعلام وأداته غالبا (هل) فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع, والمنفي هو سؤال: الاستخبار والاستعلام، وجه دلالة القرآن على هذا أن سؤاله لهم المنصوص في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ, مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}, وكقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}، إلى غير ذلك من الآيات، وسؤال الله للرسل ماذا أجبتم لتوبيخ الذين كذبوهم كسؤال الموؤودة بأي ذنب قتلت لتوبيخ قاتلها.
الوجه الثاني: أن في القيامة مواقف متعددة ففي بعضها يسألون وفي بعضها لا يسألون.
الوجه الثالث: هو ما ذكره الحليمي من أن إثبات السؤال محمول على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، وعدم السؤال محمول على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه، ويدل لهذا قوله تعالى فيقول: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} والعلم عند الله تعالى.(إنتهى)
قلت(أنا ابن عراق) فالإمام الشنقيطي مال للوجه الأول ولذلك اكتفى به في الجمع بين الآيات في كتابه أضواء البيان الذي ألفه بعد كتابه دفع إيهام الإضطراب وأحال على باقي الأوجه التي في كتابه دفع إيهام الإضطراب واعتبره أوجهها في كتابه الأخير.
والذي مال إليه العلامة الشنقيطي هو الصحيح لأمرين أن الآيات التي أثبتت السؤال كانت عامة يشمل سؤالها الذنوب وغيرها من شرائع الدين وغيرها والأمر الثاني أن الوجهين الآخرين لا دليل عليهما فالوجه الثاني دعوى عارية عن الدليل لأن الآيات المثبتة للسؤال والنافية له لم تُعَيِّن موقف كلٍّ من ذلك وتعيين ذلك يحتاج إلى دليل وأما الوجه الثالث فمردود بالأمر الأول وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه و عن شبابه فيما أبلاه و ماله من أين اكتسبه و فيما أنفقه و ماذا عمل فيما علم). والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح946 وهو ظاهرٌ في أن السؤال فيه لكل إنسان كافر كان أم مسلم لأنه المسؤول فيه هو ابن آدم ومعلوم أن من ذرية آدم عليه السلام من هو كافر ومسلم والسؤال في الحديث كان عن غير التوحيد الذي حصر الحليمي رحمه الله به سؤال الله للكافر ففي الحديث سؤال الله عما هو من الشرائع كمصدر المال وفيمَ أُنفِق وعن الإهتمام بالوقت كالعمر وماذا فعل في شبابه من حق وباطل وعن ما علمه من الحق ماذا عمل به.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله عند تفسيره سورة الرحمن في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (7 / 503 و 504): قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه يوم القيامة لا يسأل إنسا ولا جانا عن ذنبه، وبين هذا المعنى في قوله تعالى في القصص: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
وقد ذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة الرسل والمرسل إليهم، وذلك في قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ, عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93].
وقد جاءت آيات من كتاب الله مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافا.
اعلم أولا: أن للسؤال المنفي في قوله هنا: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} ، وقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78], أخص من السؤال المثبت في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ, عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة، وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء.
الأول منها: وهو الذي دل عليه القرآن، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا، هو أن السؤال نوعان: أحدهما سؤال التوبيخ والتقريع وهو من أنواع العذاب، والثاني هو سؤال الاستخبار والاستعلام.
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام، لأن الله أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6].
وعليه فالمعنى: {لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} ، سؤال استخبار واستعلام لأن الله أعلم بذنبهم منهم.
والسؤال المثبت في الآيات الآخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:106]، ومثاله عن غير ذنب قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24-26], وقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً, هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ, أَفَسِحْرٌ هَذَا} الآية [الطور:13-15]، وقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130].
أما سؤال الموءودة في قوله: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8], فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الندب (1)، لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه، لأنها هي تقول لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلما.
وكذلك سؤال الرسل، فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته، وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضوع هذا الكتاب بيان القرآن بالقرآن، وقد بينا بقيتها في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في أول سورة الأعراف.
وقد قدمنا طرفا من هذا الكتاب المبارك في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].(إنتهى)
(1) قلت (انا بن عراق) : (الندب) كذا وقع في مطبوعه وهو تصحيف والصواب (الذنب) كما هو ظاهر جدا في السياق.
وكان العلامة الشنقيطي قد رد على الشبهة قبل ذلك عند تفسيره سورة الأعراف في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - (2 / 6 و 7) إذ قال رحمه الله: قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات، أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين.
وأوضح هذا المعنى في قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [21/11-15].
قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، حدثنا بذلك ابن حميد، حدثنا جرير عن أبي سنان، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم"، قال: قلت لعبد الله: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [7/5].
قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} ، لم يبين هنا الشيء المسؤول عنه المرسلون، ولا الشيء المسؤول عنه الذين أرسل إليهم.
وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم.
قال في الأول: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [5/109].
وقال في الثاني: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [28/65].
وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعملون، وهو قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [15/92، 93].
وهنا إشكال معروف: وهو أنه تعالى قال هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [7/6]، وقال أيضاً: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [37/24]، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [55/39].
وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، وسنزيده إيضاحاً هنا إن شاء الله تعالى.
اعلم أولاً: أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة، أخص من السؤال المثبت فيها؛ لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالاً عن ذنوب خاصة، فإنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [28/78]، فخصه بكونه عن الذنوب، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}، فخصه بذلك أيضاً، فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والمؤودة مثلاً ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه؛ لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب، ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الآية [33/8]، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [5/116]، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} الآية [5/119]، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات: المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام؛ لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع؛ لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [37/24،25]، وقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [52/15]، إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور، والعلم عند الله تعالى. (إنتهى)
وقال الشنقيطي عند سورة الأعراف في كتابه دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (نسختي غير موافقة للمطبوع في ترقيم الصفحات) :
قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} الآية, هذه الآية الكريمة تدل على أن الله يسأل جميع الناس يوم القيامة ونظيرها قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ, عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}, وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ}، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ}, وكقوله: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو أوجهها لدلالة القرآن عليه وهو أن السؤال قسمان: سؤال توبيخ وتقريع, وأداته غالبا (لِمَ )، وسؤال استخبار واستعلام وأداته غالبا (هل) فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع, والمنفي هو سؤال: الاستخبار والاستعلام، وجه دلالة القرآن على هذا أن سؤاله لهم المنصوص في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ, مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}, وكقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}، وكقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}، إلى غير ذلك من الآيات، وسؤال الله للرسل ماذا أجبتم لتوبيخ الذين كذبوهم كسؤال الموؤودة بأي ذنب قتلت لتوبيخ قاتلها.
الوجه الثاني: أن في القيامة مواقف متعددة ففي بعضها يسألون وفي بعضها لا يسألون.
الوجه الثالث: هو ما ذكره الحليمي من أن إثبات السؤال محمول على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل، وعدم السؤال محمول على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه، ويدل لهذا قوله تعالى فيقول: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} والعلم عند الله تعالى.(إنتهى)
قلت(أنا ابن عراق) فالإمام الشنقيطي مال للوجه الأول ولذلك اكتفى به في الجمع بين الآيات في كتابه أضواء البيان الذي ألفه بعد كتابه دفع إيهام الإضطراب وأحال على باقي الأوجه التي في كتابه دفع إيهام الإضطراب واعتبره أوجهها في كتابه الأخير.
والذي مال إليه العلامة الشنقيطي هو الصحيح لأمرين أن الآيات التي أثبتت السؤال كانت عامة يشمل سؤالها الذنوب وغيرها من شرائع الدين وغيرها والأمر الثاني أن الوجهين الآخرين لا دليل عليهما فالوجه الثاني دعوى عارية عن الدليل لأن الآيات المثبتة للسؤال والنافية له لم تُعَيِّن موقف كلٍّ من ذلك وتعيين ذلك يحتاج إلى دليل وأما الوجه الثالث فمردود بالأمر الأول وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه و عن شبابه فيما أبلاه و ماله من أين اكتسبه و فيما أنفقه و ماذا عمل فيما علم). والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح946 وهو ظاهرٌ في أن السؤال فيه لكل إنسان كافر كان أم مسلم لأنه المسؤول فيه هو ابن آدم ومعلوم أن من ذرية آدم عليه السلام من هو كافر ومسلم والسؤال في الحديث كان عن غير التوحيد الذي حصر الحليمي رحمه الله به سؤال الله للكافر ففي الحديث سؤال الله عما هو من الشرائع كمصدر المال وفيمَ أُنفِق وعن الإهتمام بالوقت كالعمر وماذا فعل في شبابه من حق وباطل وعن ما علمه من الحق ماذا عمل به.