اعرض مشاركة منفردة
   
Share
  رقم المشاركة :2  (رابط المشاركة)
قديم 09.01.2014, 22:27
صور الشهاب الثاقب الرمزية

الشهاب الثاقب

مشرف عام

______________

الشهاب الثاقب غير موجود

الملف الشخصي
التسجيـــــل: 14.09.2011
الجــــنـــــس: ذكر
الــديــــانــة: الإسلام
المشاركات: 991  [ عرض ]
آخــــر نــشــاط
13.06.2024 (08:10)
تم شكره 689 مرة في 467 مشاركة
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين


أهداف القتال في الإسلام
لقد كان من الخير أن تعترف المثالية الإسلامية والشريعة الإسلامية بإمكان وقوع الحرب والقتال بين البشر، وإذا كان وقوع الحرب غير مستبعَد، فلا بد أن نستعد لها حتى لا يستباح حِمانا، ولا بد أن نحوط هذه الحرب بسياج من التشريعات القانونية والتوجيهات الأخلاقية، حتى لا تخرج عن قوانين العدل والرحمة، ولا تحكمها غرائز الغضب وحدها، أو (القوة السبُعية) في الإنسان، ولا بد أن نحدد أهدافها بوضوح، حتى نقف عندها، ولا نسمح لأطماعنا أو مخاوفنا أو انفعالاتنا أن تتعدى حدودها. ولا نستطيع أن نُحدِّد هذه الأهداف حقا، إلا من خلال مُحكمات النصوص، التي لا يملك المؤمن إزاءها إلا أن يقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [البقرة:285]. فلنتحدَّث عن هذه الأهداف.
1ـ رد الاعتداء:
أول أهداف القتال والحرب في الإسلام: دفع الاعتداء وردُّه بالقوة، سواء كان هذا الاعتداء واقعا على الدين أم على الوطن والأرض.
فأما الاعتداء على الدين، فيتمثل في فتنة المسلمين عن دينهم، واضطهادهم من أجل عقيدتهم، أو الوقوف في وجه الدعوة ومنعها، والصد عنها، والتعرض لدعاتها بالأذى إلى حد القتل.
ومثل ذلك: الاعتداء على أرض الإسلام، ووطن المسلمين، وما يتضمن ذلك من عدوان على دماء الناس وأموالهم وممتلكاتهم وحرماتهم ومقدساتهم. والإسلام يعتبر بلاد المسلمين كلها وطنا واحدا، أو دارا واحدة، هي (دار الإسلام)، فالاعتداء على جزء منها اعتداء على جميعها، ومسؤولية الدفاع عنها تقع على الأمة كلها: المقصودين بالأصالة، والآخرين بالمساندة والمشاركة عند اللزوم.
وكذلك الاعتداء على حرمات الأفراد: في أنفسهم، أو في أموالهم وممتلكاتهم، أو في أهليهم وذراريهم.
كما يعتبر الإسلام الاعتداء على (أهل الذمة) من غير المسلمين اعتداء على المسلمين أنفسهم، فهم من أهل دار الإسلام، وحرمتهم من حرمة المسلمين. وعقد الذمة يوجب على المسلمين الدفاع عنهم، وبذل الأنفس والأموال لحمايتهم، كما يدافعون عن المسلمين، سواء بسواء[1].
ونحو ذلك العدوان على حلفاء المسلمين، لأن الحلف يقضي بالتعاون في السراء والضراء، والتضامن في السلم والحرب. ولهذا حينما غدرت قريش بقبيلة خزاغة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعتبر الرسول ذلك نقضا لعهده، واعتداء عليه وعلى أصحابه، ولأجله جيش الجيوش لفتح مكة.
وهنا يوجب الإسلام على المسلمين: أن يقفوا في وجه الاعتداء، أيا ما كان المعتدون أو المعتدى عليهم، ويتصدوا له ليدفعوه عنهم، ويردوه عن حرماتهم بسيف القوة، وقوة السيف.
يقول تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[البقرة:190-194].
قرَّرت هذه الآيات جملة أحكام:
1. الأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين، أي يبدأونهم بالقتال، على أن يكون قتالهم في سبيل الله، أي لتكون كلمة الله هي العليا.
2. النهي عن الاعتداء بصفة مطلقة، وتعليل ذلك بأن الله لا يحب المعتدين، وهذا دليل على أنه حكم مُستقر مُحْكم غير قابل للنسخ. كما أن فيه تنفيرا للمسلم منه، فإن كل مسلم حريص على أن يكون ممَّن يحبهم الله، لا ممَّن لا يحبهم الله.
3. تشريع معاملة هؤلاء المعتدين على المسلمين بمثل أعمالهم من القتل والإخراج.
4. تقرير أن الفتنة في الدين أشد من القتل، لأن القتل اعتداء على الكيان المادي للإنسان: الجسد، والفتنة اعتداء على الكيان المعنوي: الروح والعقل والإرادة.
5. تقرير حرمة المسجد الحرام الذي مَن دخله كان آمنا، والنهي عن قتالهم فيه، ما لم يبدأوا هم بالقتال، فإن فعلوا، فحرمة المؤمنين أهم من حرمة المسجد الحرام، وجاز قتالهم وقتلهم فيه، حتى ينتهوا.
6. تقرير غاية القتال، وهو: اتقاء الفتنة، وتوطيد حرية الإيمان للناس، بكسر شوكة المتجبرين في الأرض الذين يفتنون الناس عن دينهم. وبهذا يكون الدين لله، يدخله مَن شاء بإرادته، لا يُكره عليه، ولا يُصَدّ عنه من أحد.
7. شرعية مقابلة العدوان بمثله، وقد سمَّاه القرآن اعتداء، من باب المشاكلة اللفظية، وإلا فالرد على الاعتداء في الحقيقة ليس اعتداء.
2ـ منع الفتنة أو تأمين حرية الدعوة:
ومن أهداف القتال التي نصَّ عليها القرآن: منع الفتنة في الدين، وهذا ما صرَّح به القرآن الكريم في آيتين من كتاب الله، إحداهما في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)[البقرة:193].
والثانية في سورة الأنفال في قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[الأنفال:39].
فقد حدَّدت الآيتان كلتاهما غاية القتال بأنها: منع الفتنة: (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، وهذه نكرة في سياق النفي تعمُّ كل فتنة يمكن أن تتصوَّر هنا: فتنة الإنسان في نفسه، أو في أهله، أو فيمَن يحب من الناس.
والفتنة في اللغة: الاختبار والامتحان[2]، مثل قولهم: فتن الذهب: أي وضعه على النار ليعرف خالصه من زيفه. فالفتنة تعني: الاضطهاد والإيذاء والتعذيب لمَن دخل في الإسلام حتى يرجع عن دينه. وفي هذا يقول القرآن: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا)[النحل:110].
وحينما اشتد الأذى والتنكيل بالمؤمنين في مكة، نزل القرآن ليواسيهم ويثبتهم، كما تجلَّى ذلك في أوائل سورة العنكبوت: (ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[العنكبوت:1-3]. فبيَّن القرآن أن فتنة المؤمنين بالإيذاء والتنكيل: سنة ماضية في الأمم من قبلنا.
وفي السورة نفسها يقول تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)[العنكبوت:10].
وهذا الأسلوب -فتنة المؤمنين عن دينهم بالأذى والعذاب حتى يرتدوا عنه- أسلوب قديم اتَّبعه الكفرة والطغاة مع أهل الإيمان، كما حكى القرآن ذلك في سورة البروج، التي حدثتنا عن الجبابرة الذين خدُّوا الأخاديد، وملأوها نارا، وألقوا فيها كل مؤمن أصرَّ على عقيدته. يقول تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[البروج:4-10]، فواضح كل الوضوح من الآيات الكريمة: أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات هم الذين عذَّبوهم بالنار.
ومن هنا كانت هذه (الفتنة في الدين) أشد شيء خطرا على الإنسان، وعلى حرية اختيار الإنسان، فأن أهل القوة والجبروت يريدون أن يتحكموا في ضمائر الناس، فليس لهم حق الإيمان بما اقتنعت به عقولهم، أو اطمأنت إليه قلوبهم، إلا بإذن الجبابرة وموافقتهم، كما قال فرعون من قديم مُنكرا على السحرة من أبناء مصر: إيمانهم برب موسى وهارون: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)[طـه:71، الشعراء:49، الأعراف:123]، معنى ذلك: أنه لا يجوز لعقل أن يقتنع بفكرة، ولا لقلب أن يؤمن بعقيدة إلا بإذن فرعون!!
فإذا خالف وآمن، تعرَّض لبطش فرعون، وتهديده بالتنكيل والتصليب في جذوع النخل، وغيره من ألوان العذاب.
ولا غرو أن اعتبر القرآن الـ(فِتْنَةٌ): أشد من القتل، وأكبر من القتل، فإذا نظرنا إليها من ناحية (الكيف) فهي: {أَشَدُّ} أومن ناحية (الكم) فهي: {أَكْبَرُ}.
يقول تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)[البقرة:217].
ضخَّم المشركون واقعة قَتَلَ فيها بعضُ المسلمين واحدا من المشركين خطأ في الشهر الحرام، وأبْدأوا وأعادوا وزادوا في القول، والقرآن أقرَّ بأن القتال في الشهر الحرام ذنب كبير، ولكن ما فعلوه من الصد عن سبيل الله والكفر به، وبحرمة المسجد الحرام، وإخراج أهله منه: أكبر عند الله مما وقع من المسلمين. ثم قال: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ): أيْ والفتنة التي يوقعها المشركون عمدا بالمؤمنين الجُدد بالإسلام: أكبر وأعظم إثما من القتل الذي وقع من المسلمين خطأ في الشهر الحرام.
ومن البيِّن الواضح: أن الفتنة في الآيتين هي الاضطهاد في الدين، وتعذيب المؤمنين، كما وضَّحناه في الآيات السابقة، وكما يدل عليه السياق بجلاء. فهم الذين آذوا المؤمنين طوال ثلاثة عشر عاما في مكة، وأنزلوا بهم صنوف العذاب، وحاصروهم اقتصاديا واجتماعيا، حتى أكلوا أوراق الشجر، وعذَّبوا المستضعفين منهم، حتى مات بعضهم تحت التعذيب، واستمر هذا التنكيل حتى اضطروهم للخروج من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. فهاجر بعضهم مرتين، ثم هاجروا جميعا -إلا مَن عجز- إلى يثرب. ومن المتفق عليه: أن أفضل ما يفسر القرآن بالقرآن. وهذا معنى الفتنة في القرآن.
وإنما كانت الفتنة: (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) و (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، لأن القتل جناية على (جسم) الإنسان وحياته المادية، أما الفتنة، فهي جناية على (ضمير) الإنسان، وحياته الروحية والفكرية. والجناية الثانية أعظم بلا ريب من الجناية الأولى.
والخلاصة هنا: أن القتال مشروع لغاية، وهي منع الفتنة والاضطهاد في الدين، ورفع أساليب الضغط والإكراه المادي والأدبي عن الناس، وتأمين الحرية للدعوة والدعاة، ليؤمن مَن آمن بحريته، ويكفر مَن كفر باختياره، إذ (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[البقرة:256]، (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) [يونس:108].
وأما ما ورد عن بعض مفسري السلف، الذين فسروا الفتنة بأنها: (الشرك) أو (الكفر)، فهو خروج عن ظاهر المعنى الذي يؤدِّيه اللفظ، وهو تفسير
ُ غيرِ معصوم، ولا حجة في قول أحد إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يوجد عنه نص في ذلك. ولعل مرادهم: أن الشرك في ذلك الوقت وفي أرض العرب خاصة، كان مرتعا للشر، ومباءة للإثم والعدوان، وأن بقاء الشرك بقوته: مُهدِّد للإسلام الناشئ، وللمسلمين الجُدد بطبيعته العدوانية. فمعنى (حتى لا يكون شرك): أيْ شرك متجبِّر في الأرض، أي حتى تقلَّم أظفار العدوان، وتخلع أنيابه المفترسة، ولا يبقى مَن يفتن الناس. وذكر في (تفسير المنار) ما قاله بعض المفسرين القدامى: أن الفتنة هي الشرك. قال: وردَّه الأستاذ الإمام (محمد عبده) بأنه يُخرج الآيات عن سياقها. وذكره البيضاوي هنا بصيغة التضعيف (قيل)[3].
وقال في معنى قوله تعالى:(حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ): أي حتى لا تكون لهم قوة يفتنونكم بها ويؤذونكم لأجل الدين، ويمنعونكم من إظهاره أو الدعوة إليه.
ومعنى قوله
(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)، وفي سورة الأنفال: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ): أي يكون دين كل شخص خالصا لله، لا أثر لخشية غيره فيه، فلا يُفتن لصدِّه عنه، ولا يؤذَى فيه، ولا يحتاج فيه إلى المداهنة والمداراة، أو الاستخفاء أو المحاباة، وقد كانت مكة إلى هذا العهد قرار الشرك، والكعبة مستودع الأصنام، فالمشرك فيها حر في ضلالته، والمؤمن مغلوب على هدايته[4].

على أن هناك من المفسرين مَن أبقى لفظ الـ
(فِتْنَةٌ) على معناه الأصلي المتبادر منه، ولم يَمِل به عن أصله.
ذكر الإمام فخر الدين الرازي في تفسير معنى الـ(فِتْنَةٌ) في قوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ): وجوها، فكان الوجه الثاني منها: أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش. ثم صار اسما لكل ما كان سببا للامتحان تشبيها بهذا الأصل. والمعنى: أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين، وعلى تشديد الأمر عليهم، بحيث صاروا مُلجَئين إلى ترك الأهل والوطن، هربا من إضلالهم في الدين، وتخليصا للنفس مما يخافون ويحذرون: فتنة شديدة، بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخلص من عموم تلك الفتنة[5].وفي تفسير قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، قال: في المراد بالفتنة هنا وجوه: أحدها: أنها الشرك والكفر، ثم فسَّر ذلك فقال: قالوا: كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، حتى ذهبوا إلى الحبشة، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة، وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة: أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا. فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: قاتلوهم حتى تظهروا عليهم، فلا يفتنوكم عن دينكم، فلا تقعوا في الشرك[6]
3ـ إنقاذ المستضعفين:
ومن أهداف القتال في الإسلام: إنقاذ المستضعفين من خلق الله، من ظلم الجبَّارين، وتسلُّط المستكبرين في الأرض بغير الحق، الذين يستخفُّون بحرمات الضعفاء، ويسومونهم سوء العذاب، ويُهْدرون إنسانيتهم، لأن في أيديهم القوة المادية التي تمنع الأيدي أن تُدافع، وتُخرس الألسنة أن تتكلم، وتُكره الناس على أن يسكتوا عن الحق أو ينطقوا بالباطل.فعلى المسلمين واجب النَّجدة لتحرير هؤلاء المستعبدين، وإغاثة هؤلاء الملهوفين، وإنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ولا يملكون إلا الدعاء إلى الله تعالى أن يُنجِّيهم من عدوهم، ويُهيِّئ لهم مَن ينصرهم ويأخذ بأيديهم.يقول تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) [النساء:74،75].فانظر إلى هذا الأسلوب التحريضي البليغ الذي يستثير الهمم، ويحرِّك العزائم، (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ)؟فجعل القتال في سبيل المستضعفين قرين القتال في سبيل الله، إذ عطفه عليه بالواو بلا فاصل. بل هو عند التأمل جزء من القتال في سبيل الله، لأن القتال إنما يكون في سبيل الله إذا كانت الغاية: أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله هي كلمة الحق الذي يواجه الباطل، والعدل الذي يواجه الظلم. وإنقاذ المستضعفين إنما هو لإقامة عدل الله في الأرض. ولهذا قالت الآية التالية لهذه الآية: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) [النساء:76]، فقرَّرت الآية أن شأن الذين آمنوا: أن يكون قتالهم في سبيل الله، هكذا بإطلاق وتعميم، وإن كان من أجل المستضعفين، فهو أيضا في سبيل الله. بخلاف الذين كفروا، فإن لهم غاية غير غاية المؤمنين، وهي أنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت. وهو: كل ما يُعظَّم ويعبد ويطاع طاعة مطلقة من دون الله، وهو مصدر كل شر وطغيان. ولهذا بعث الله رسله لتحرير الأمم من عبادة الطاغوت أيا كان اسمه ونوعه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36].والظاهر: أن المسلمين مدعوون لإغاثة الملهوفين، وإنقاذ المستضعفين في الأرض من خلق الله، وإن لم يكونوا مسلمين، لأن رفع الظلم والأذى عن جميع الناس مطلوب من المسلم إذا كان قادرا عليه، ما لم يكونوا محاربين للمسلمين.بل المسلم مطلوب منه أن يرفع الأذى عن الحيوان الأعجم إذا قدر عليه، سواء كان هذا الأذى ناشئا عن ظلم إنسان له، أو أسباب طبيعية أخرى، كأن يصيبه العطش أو غيره من ألوان الأذى.


[1]- انظر: كتابنا (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) تحت عنوان (الحماية من الاعتداء الخارجي) صـ10،9. نشر مكتبة وهبة. القاهرة.
[2]- النهاية في غريب الحديث والأثر (3/411).
[3]- قال البيضاوي في تفسير: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ): أي المحنة التي يفتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن: أشد من القتل، لدوام تعبها، وتألم النفس بها، وقيل: معناه: شركهم في الحرم، وصدهم إياكم عنه، أشد من قتلكم إياهم فيه. انظر: تفسير البيضاوي (2/285)، وقال الشهاب في حاشيته على تفسير البيضاوي: قيل لبعض الحكماء: ما أشد من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت! ومنه أخذ المتنبي قوله: (وحسبُ المنايا أن يكنّ أمانيا!) وجعل الإخراج من الوطن: من الفتن التي يُتمنى عندها الموت، كما قال الشاعر:
لقتل بحد السيف أهون موقعا على النفس من قتل بحد فراق!
انظر: حاشية الشهاب على البيضاوي (2/285)، يؤكد هذا قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء:66]، فقرن قتل النفس بالخروج من الديار، دلالة على أنهما متكافئان أو متقاربان.
[4]- تفسير المنار (2/210،211) طبعة المنار الثالثة.
[5]- التفسير الكبير للفخر الرازي (5/143).
[6]- المصدر السابق (5/145).

منقول
من كتاب نحن والغرب

يُتبع







توقيع الشهاب الثاقب

هل الله يُعذب نفسه لنفسههل الله يفتدى بنفسه لنفسههل الله هو الوالد وفى نفس الوقت المولوديعنى ولد نفسه سُبحان الله تعالى عما يقولون ويصفون
راجع الموضوع التالي
طريق الحياة و أدلة ساطعه على عدم الفداء



آخر تعديل بواسطة الشهاب الثاقب بتاريخ 24.01.2015 الساعة 18:53 .
رد باقتباس
2 أعضاء قالوا شكراً لـ الشهاب الثاقب على المشاركة المفيدة: