"الرد التفصيلي"
إن المجيء على كل الشبه التي ذكرها "خليل عبدالكريم" تصريحاً أو تلمبحاً في هذه العجالة أمر غاية في الصعوبة حقاً؛ فإن المسكين قمَّ كثيراً من الشبه التي قاءها من سبقه حول رموز الإسلام، ولكن لا مانع من الوقوف مع بعص هذه الشبه ومحاولة الإجابة عنها.
*بعض ما يتعلق بالقرآن الكريم:
الشبهة الأولى: أن القرآن الكريم لم يدون حتى سنة 30هـ[1]ـ:
وهو يريد بهذا ما سبق التأكيد عليه مراراً حول كون القرآن جدلي تاريخي، ومما يمكن الاتكاء عليه لتقوية هذا الزعم : القول بتأخر جمع القرآن إلى ذلك التاريخ الذي أشار إليه الكاتب.
والجدير بالذكر هنا أن التاريخ الحقيقي لجمع القرآن الكريم في زمن عثمان رضي الله عنه وهو الجمع الثاني- كان في حدود أواخر سنة24هـ أوائل سنة 25هـ، كما قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، وأما القول بأن الجمع كان سنة 30هـ فقد قال عنه الحافظ: (وغفل بعض من أدركناه فزعم أنه كان في حدود سنة ثلاثين ولم يذكر له مستنداً)[2].
وإنما أخذ الكاتب هذه الشبة متلقفاً لها من كتابات أحد الباحثين المعاصرين وهو:عبدالله خورشيد البري، في كتابه: القرآن وعلومه، فرآها توافق ما يدعيه أو تعين عليه فسطا عليها وسمى قائلها: باحثاً رصيناً[3] –كعادته إذا نقل ما يحبه عمن كان- حتى يروج لذلك القول.
الشبهة الثانية: أن القرآن تلفيق من اليهودية والنصرانية ومعتقدات العرب:
لأجل هذا المعنى كان الكاتب كثيراً ما يردد عبارة(انتسخها القرآن- انتسخها الإسلام..) في مواضع من كتابه، واستدل على ذلك بأن النبيr كان يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يرح إليه فيه شيء[4]..،الخ هذا الهراء؛ وعلى كل حال فإن هذا الزعم قد سبق الكاتب (المسكين الذي سعى سعياً مستميتاً إلى أن يأتي بقول إلحادي جديد ولكنه مع الأسف لم يكن سوى مقلد لغيره، قد أجر عقله عليهم بلا ثمن) من قبل بعض المستشرقين ، وفي هذا يقول المستشرق اليهودي إبراهام جيجر في كتابه ((ماذا اقتبس محمد من اليهودية )): (( إن القرآن مأخوذ باللفظ أو بالمعنى من كتب اليهود))([5]).
ويؤكد اليهودي برنارد لويس : (( أن محمداً خضع للتأثيرات اليهودية والمسيحية كما يبدو ذلك واضحاً في القرآن )) ([6]) .
ويشرح جولدتسهر قائلا : (( تبشير النبي العربي ليس إلا مزيجاً منتخباً من معارف وآراء دينية عرفها بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية التي تأثر بها تأثراً عميقاً، والتي رآها جديرة بأن توقظ في بني وطنه عاطفة دينية صادقة .... فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعد هذه التعاليم وحيا إلهياً)) ([7]).
الشبهة الثالثة: أن القرآن تكرار لقصص العهد القديم والجديد:
وهذا قد ألمح له الكاتب في مواطن كثيرة من هذا الكتاب ومن كتاب"فترة التكوين كذلك"، وهو أيضاً مسبوق إلى هذا القول؛ (يقول جولدتسهر : لقد أفاد محمد من تاريخ العهد القديم وكان ذلك في أكثر الأحيان عن طريق قصص الأنبياء ليذكَّر على سبيل الإنذار والتمثيل بمصير الأمم السالفة الذين سخروا من رسلهم ووقفوا في طريقهم)([8]).
ويجاب عن هاتين الشبهتين أولاً بتقرير ثلاث حقائق أو طرق قررها القرآن، في معرض رده على شبه قريش؛ وهي:
أولها : طريق التحدي، وهو طريق الردع لذوي اللجاجة في الجدل غير المنقادين إلى المسلمات والحقائق، والرافضة لكل برهان يقينيّ ودليل إلزامي وحجة دامغة . قال تعالى: ] قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً[[9].
فإن كان محمد r قد استطاع بمساعدة أهل الكتاب أن يأتي بالقرآن من عند نفسه، فليحاول أهل الكتاب أنفسهم ومعهم الثقلان من الجن والإنس أن يأتوا بمثل القرآن إن كانوا صادقين في زعمهم مبدأ الإفادة .
وهذا التحدي القرآني لمجادلي التنصير يشتمل على دليل بطلان مزاعمهم، إذ التحدي مكلَّل بفشلهم وهو دليل على بطلان دعواهم .
الثاني : طريق المقارنة، حيث يدعو القرآن إلى تأمل آياته وقصصه وأخباره، إذ ينتهي ذلك التأمل إلى نتيجة حتمية مؤداها تنزيه القرآن عن الاختلاف والتناقض، وهذه سمة الوحي الإلهي الأصيل فقط، أما غيره فيشتمل على وجوه من الاختلاف والتضارب ، قال تعالى : ] أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا[ [10] .
الثالث: طريق النقد التاريخي، وفيه ألزم القرآن مجادليه بحقيقتين تاريخيتين تبطلان مزاعمهم :
الحقيقة الأولى : أمية الرسول r وعدم معرفته بالقراءة والكتابة .
قال تعالى: ]وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون[[11].
الحقيقة الثانية : عجمة المعلمين المزعومين، فالحداد الذي نسبوا إليه تعليم النبي r كان لسانه أعجمياً لا يجيد العربية بينما القرآن في أعلى طبقات الفصاحة التي سجد لها بعض الأعراب، والتي لا يستقيم عقلا أن يتعلمها النبي r من أعجمي، قال تعالى : ] ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين[ [12])[13] .
وثانياً: فالقول بأن القرآن فيه استفادة من الكتب السابقة في القصص والأخبار؛فإن "هذه الدعوى تفصيل للدعوى الأولى ، وتحديد لمجمل مزاعمها ، وتعيين القصص القرآني بأنه موضع الاقتباس والإفادة من قصص التوراة والإنجيل ، ولن يجدي في رد هذه الشبهة سوى منهج نقد النصوص المقارن لإبراز جوانب التباين بين مرويات القصص القرآني ومنهجها ، وبين القصص التوارتي والإنجيل .
وبواسطة هذا المنهج أمكن الوقوف على أربعة دلائل تتهافت معها دعوى تكرار القرآن لقصص التوراة والإنجيل ، وهى :
الدليل الأول : اختلاف منهج القصص في القرآن عن المنهج القصصي في التوراة والإنجيل .
يختلف منهج القصص في القرآن عن المنهج القصصي في التوراة والإنجيل من عدة جوانب منها :
1 ـ مصدر القصص، حيث إن الذى يقصُّ في القرآن هو الله تبارك وتعالى([14]) ، فهو المتكلم بالكلمة القرآنية ، يقول تعالى : } نحن نقص عليك أحسن القصص { [15]
ويقول تعالى : } نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى { [16].
أما في التوراة والإنجيل فالله تعالى متحدَّث عنه بطريق الحكاية لتعريف الناس به .
3 ـ التشخيص البياني ، وهو التعبير بالصورة المحسوسة المتخيلة عن المعانى الذهنية والحالات الشعورية والمشاهدات والأحداث الحقيقية، وهذا النهج التشخيصي هو الأداة المفضلة في القصص القرآني . يقول سيد قطب :
(( إن التعبير القرآني يتناول القصة بريشة التصوير المبدعة التى يتناول بها جميع المشاهد والمناظر التى يعرضها فتستحيل القصة حادثاً يقع ومشهداً يجرى لا قصة تروى ولا حادثاً قد مضى )) ([17]) .
4 ـ التصريح والتلميح ، في الوقت الذى يهتم القرآن بإبراز أدق التفاصيل النفسية والشعورية لأشخاص قصصه ، فإنه يكتفي بذلك التشخيص معرضاً عن التصريح بالأسماء كما في قصة (( العبد الصالح )) (( الفتى )) مع موسى ، وكما في قصة ثمود } إذ انبعث أشقاها { [18]، وكما في مؤمن آل فرعون .
وقد يكون هذا التلميح إلى جانب ملاءمته للمنهج القصصي الذي يهتم بإبراز الحدث وقيمته ومغزاه لكونه الهدف من القصّ ، فإنه يناسب طبيعة التشريع الإسلامي فيما يخصُّ أسماء النساء مثلا : امرأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون ، وكذلك زوجة إبراهيم هاجر وسارة ، وأسماء زوجات النبي r ، والمجادلة في زوجها ([19]) .
5 ـ التجريد الزماني والمكاني ، حيث لا يحدد القرآن زمن الحدث أو مدته أو مكانه إلا ما كان محورياً في الحدث أو مسرحاً له كمصر في قصة يوسف ، أو المسجد الحرام والمسجد الأقصى في الإسراء والمعراج ، أو مدة رسالة نوح ، أو مدة لبث أهل الكهف في نومهم ، أو المدة التي أماتها الله للمارّ على القرية الخاوية ([20]).
وترجع أسباب التجريد في الزمان والمكان في قصص القرآن إلى أمرين:
أولهما : عناية القصة بالحدث وتقرير الحقائق الدائمة المستقلة عن الأشخاص ، والتي يمكن الإفادة من حكمتها ومغزاها في كل زمان ومكان بما يتلاءم مع عالمية رسالة القرآن واستمرارها، فما الأشخاص في القصص القرآني والحال كذلك إلا أمثلة لتلك الحقائق المقصودة لذاتها ([21]) .
الثاني : تحقيق الإيجاز غير المُخِلّ ([22]) .
6 ـ التنويع بين الإجمال والتفصيل ، ففي مواضع : التحذير من العناد والتكذيب والإصرار على الباطل ، والتخويف من مصائر المكذبين ، يكون الإيجاز والفواصل القصيرة دون ذكر للأسماء أو للمحاورات ([23]) ، فيورد القرآن ـ مثلا ـ في تسع آيات من سورة الفجر ثلاث قصص لمكذبي الرسل تشمل أعمالهم وعقابهم . قال تعالى : } ألم تركيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد. فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد {[24]. وهذا مالا نظير له في التوراة أو الإنجيل .
7 ـ عاقبة القصص ، يأتي ختام القصة في القرآن بعكس ختام قصص التوراة والإنجيل حيث تختم القصة مع نهاية السفر أو الإصحاح ، ففي قصة يوسف مثلا يفترض أن تكون الخاتمة في لقاء يوسف بأبيه يعقوب الذي صورته التوراة على النحو التالي : (( فشد يوسف مركبته وصعد لاستقبال إسرائيل أبيه إلى جاسان ، ولما ظهر له وقع على عنقه وبكى على عنقه زماناً . فقال إسرائيل ليوسف أموت الآن بعد ما رأيت وجهك أنك حي بعد )) ([25]).
وعلى الرغم من أن عبارة يعقوب لم تمس سبب العقدة الأصلية في القصة وهى رؤيا يوسف وتآمر إخوته عليه ، فإن القاصّ في التوراة يكمل الأحداث بعد هذا اللقاء ليصف لقاء يعقوب بالفرعون ، والمكان الذي أقطعه لبني إسرائيل ، ومرض يعقوب وموته .
أما ختام القصص في القرآن فيكون غالباً في شكل عبرة ، أو عظة ، أو حكمة، أو تقرير موجز ([26]) ، كما في قصة السامري مع العجل : } إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً { [27] ، وفي قصة أهل الكهف : } قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحداً { [28]، وفي قصة يوسف : } ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً ، وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيفٌ لما يشاء إنه هو العليم الحكيم..{ [29]، وفي قصة مريم وابنها المسيح : } ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون . ما كان لله أن يتخذ من ولد، سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون{[30])[31].
*بعض ما يتعلق بالسيرة النبوية الشريفة:-
الشبهة الأولى: زواج النبي r من زينب بنت جحش رضي الله عنها:
فإنه ختم مبحثاً متعلقاً بذلك بسؤال غير خافية منه علامات الاتهام للنبيr ،تزكم الأنوف منه رائحة خبث القصد وفساد النية، إذ قال : (لماذا عدل القرآن المجيد عن منهجه التدرجي في تحريمه للربا وللخمر واتخذ المنهج الفوري في تحريم التبني وما استتبع ذلك من حلّية منكوحة الابن المتبنى ( سورة الأحزاب ) الذي حطم نسقًا اجتماعيًا راسخًا في مجتمع شبه جزيرة العرب؟)[32].
وهو يريد من ذلك أن النبي r -واضع القرآن ومفتريه- بادر بادعاء تحريم التبني حتى
لا بتأخر زواجه من زينب بنت جحش رضي الله عنها زوجة ابنه بالتبني زيد بن حارثة رضي الله عنه.
وقد أجاد الشيخ احمد بن عبدالعزيز القصير في الرد على هذه الشبهة، فأنقل كلامه في المسألة كاملاً، قال –وفقه الله تعالى- :
(ذكر
بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية
:
أنَّ
النبي صلى الله عليه
وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش رضي الله عنها ، وهي في عصمة
زيد بن حارثة ،
وأنَّ النبي rكان
حريصاً على أن يُطلقها زيد فيتزوجها هو
.
وقد اتكأ على هذه الرواية عدد من المغرضين ، من مستشرقين ، وملحدين
،
وجعلوها أداة للطعن في
نبينا الكريم ، والنيل من شخصه الكريم)[33].
ثم
فصل في تخريج الرواية وذكر طرقها، فقال: (.
رويت
هذه القصة من
ثمانية طرق ، كلها ضعيفة ، وفيما يلي تفصيلها وبيان عللها
:
الرواية الأولى
: عن
أنس بن
مالك رضي الله عنه قال :« أَتَى رَسُولُ اللَّهِr
مَنْزِلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ ، وَكَأَنَّهُ دَخَلَهُ ( لَا أَدْرِي مِنْ
قَوْلِ حَمَّادٍ ،
أَوْ فِي الْحَدِيثِ ) فَجَاءَ زَيْدٌ يَشْكُوهَا إِلَيْهِ ،
فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ
وَاتَّقِ اللَّهَ .
قَالَ
: فَنَزَلَتْ :﴿وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ ﴾ إِلَى قَوْلِهِ :(زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ يَعْنِي زَيْنَبَ
».
الرواية الثانية
: عن محمد بن يحيى بن حبان: قال : جاء رسول اللهr
بيت زيد بن حارثة يطلبه ، وكان زيد إنما يقال له زيد بن محمد ، فربما فقده
رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة ، فيقول: أين زيد ؟ فجاء منزله
يطلبه ، فلم
يجده ، وتقوم إليه زينب بنت جحش ، زوجته فُضُلاً ، فأعرض رسول الله
صلى الله عليه
وسلم عنها ، فقالت : ليس هو هاهنا يا رسول الله ، فادخل بأبي أنت
وأمي ، فأبى رسول
الله r
أن يدخل ، وإنما عجلت زينب أن تلبس ، لما قيل لها رسول
الله صلى الله عليه
وسلم على الباب ، فوثبت عُجلى .
فأعجبت رسول الله r ، فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يُفهم منه إلا ربما أعلن سبحان الله العظيم ، سبحان مصرف القلوب ، فجاء زيد إلى منزله ، فأخبرته امرأته أن رسول الله rأتى منزله ، فقال زيد : ألا قلت له أن يدخل ؟ قالت : قد عرضت ذلك عليه فأبى . قال : فسمعت شيئاً ؟ قالت : سمعته حين ولى تكلم بكلام ، ولا أفهمه ، وسمعته يقول: سبحان الله العظيم ، سبحان مصرف القلوب ، فجاء زيد حتى أتى رسول الله r فقال : يا رسول الله : بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لعل زينب أعجبتك فأفارقها ، فيقول رسول اللهr : أمسك عليك زوجك .
فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم ، فيأتي إلى رسول الله r ، فيخبره رسول الله : أمسك عليك زوجك .فيقول: يا رسول الله ، أفارقها ؟ فيقول رسول الله r : احبس عليك زوجك .
ففارقها زيد ، واعتزلها ، وحلت ، يعني انقضت عدتها ، قال: فبينا رسول الله r جالس يتحدث مع عائشة إلى أن أخذت رسول اللهr غشية ، فسري عنه وهو يتبسم وهو يقول: من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله قد زوجنيها من السماء ، وتلا رسول الله r :( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ ».
الرواية الثالثة :
عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال :« كان النبيr
قد زوج زيد بن
حارثة زينب بنت جحش ابنة عمته ، فخرج رسول الله
r
يوماً يريده ،
وعلى الباب ستر من شعر ، فرفعت الريح الستر ، فانكشفت وهي في حجرتها
حاسرة ، فوقع
إعجابها في قلب النبي r.
فلما وقع ذلك كرهت إلى الآخر ، فجاء فقال: يا رسول الله ، إني أريد أن أفارق صاحبتي . قال: ما لك؟ أرابك منها شيء ؟ قال: لا والله ، ما رابني منها شيء يا رسول الله، ولا رأيت إلا خيراً ، فقال له رسول الله r : أمسك عليك زوجك واتق الله . فذلك قول الله تعالى:﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها ».
الرواية الرابعة
: عن قتادة
قال : جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن زينب اشتد علي
لسانها ، وأنا
أريد أن أطلقها . فقال له النبي
r
: اتق الله ، وأمسك عليك زوجك ،
والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يطلقها ، ويخشى قالة الناس إن
أمره بطلاقها ،
فأنزل الله تعالى:﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى
النَّاسَ ﴾ .
الرواية الخامسة
: عن مقاتل بن سليمان قال : زَوَّجَ النبيr
زينب بنت جحش من زيد ، فمكثت عنده حيناً ، ثم إنه عليه السلام أتى
زيداً يوماً يطلبه ، فأبصر زينب قائمة ، وكانت بيضاء جميلة جسيمة من
أتم نساء قريش
، فهويها وقال: سبحان الله مقلب القلوب ، فسمعت زينب بالتسبيحة ،
فذكرتها لزيد ،
ففطن زيد فقال: يا رسول الله ، ائذن لي في طلاقها ، فإن فيها كبراً
، تعظم عليَّ
وتؤذيني بلسانها ، فقال عليه السلام : أمسك عليك زوجك واتق الله .
الرواية
السادسة
: عن عكرمة قال :« دخل النبي
r
يوماً بيت زيد ، فرأى زينب
وهي بنت عمته ، فكأنها وقعت في نفسه ، فأنزل الله :﴿وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ
وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾
».
الرواية السابعة
: عن الشعبي :« أن رسول الله
r
رأى زينب بنت
جحش فقال: سبحان الله ، مقلب القلوب. فقال زيد بن حارثة: ألا أطلقها
يا رسول الله ؟
فقال: أمسك عليك زوجك ؛ فأنزل الله عز وجل:﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي
أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ
وَاتَّقِ
اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ ».
الرواية الثامنة :
عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة :« أن رسول اللهr
جاء بيت
زيد بن
حارثة ، فاستأذن، فأذنت له زينب ، ولا خمار عليها ، فألقت كم درعها على
رأسها ، فسألها عن زيد ، فقالت: ذهب قريباً يا رسول الله ، فقام
رسول الله
r
ولـه همهمة ، قالت زينب: فاتبعته ، فسمعته يقول: تبارك مصرف القلوب ، فما
زال يقولها حتى تغيب »)[34].
ثم ذكر مذاهب أهل العلم والتفسير تجاه تلك الروايات حول القصة فقال:
(اختلف
المفسرون ، وأهل الحديث ، تجاه هذه الروايات الواردة في سبب نزول الآية ، على
مذهبين :
المذهب
الأول : رد هذه الروايات وإنكارها ؛ وذلك لعدم ثبوتها ، ولما
فيها من قدحٍ بعصمة النبيr
.
ويرى
أصحاب هذا المذهب : أن
الصواب في سبب نزول الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد
أوحى الله إليه أن
زيداً يطلق زينب ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له ، فلما تشكى
زيد للنبي صلى
الله عليه وسلم خلق زينب ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه بأنه يريد
طلاقها ، قال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية : اتق الله ، أي في
أقوالك ، وأمسك
عليك زوجك ، وهو يعلم أنه سيفارقها ، وهذا هو الذي أخفى في نفسه ،
ولم يُرِدْ أن
يأمره بالطلاق ، لما علم من أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن
يلحقه قول من الناس في أن تزوج زينب بعد زيد وهو مولاه ، وقد أمره
بطلاقها ؛ فعاتبه
الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر قد أباحه الله
تعالى له .
وهذا
المذهب روي عن : علي بن الحسين ، والزهري ، والسدي .
وذكر القرطبيان : أن هذا القول هو الذي عليه أهل التحقيق من
المفسرين ، والعلماء
الراسخين . وممن قال به
:
أبو
بكر الباقلاني ، وبكر بن العلاء القشيري ،
وابن حزم ، والبغوي ، وابن العربي ، والثعلبي ، والقاضي عياض ،
والواحدي ، وأبو
العباس القرطبي ، وأبو عبد الله القرطبي ، والقاضي أبي يعلى ، وابن
كثير ، وابن
القيم ، وابن حجر ، وابن عادل ، والآلوسي ، والقاسمي ، ورحمة اللـه
بن خليل الرحمن
الهندي ، وابن عاشور ، والشنقيطي ، وابن عثيمين .
قال
القاضي عياض :« اعلم
ـ أكرمك الله ، ولا تسترب في تنزيه النبي
r
عن هذا الظاهر ، وأن
يأمر زيداً بإمساكها ، وهو يحب تطليقه إياها ، كما ذُكِرَ عن جماعة
من المفسرين ،
وأصح ما في هذا : ما حكاه أهل التفسير ، عن علي بن حسين : أن الله
تعالى كان أعلم
نبيه أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما شكاها إليه زيد قال له : أمسك
عليك زوجك واتق
الله . وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها مما الله
مبديه و مظهره
بتمام التزويج وتطليق زيد لها ».أهـ
وقال أبو العباس القرطبي :« وقد اجترأ بعض المفسرين في تفسير هذه الآية ، ونسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به ويستحيل عليه ، إذ قد عصمه الله منه ونزهه عن مثله ، وهذا القول إنما يصدر عن جاهلٍ بعصمته عليه الصلاة والسلام ، عن مثل هذا ، أو مُسْتَخِفٍّ بحرمته ، والذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين : أن ذلك القول الشنيع ليس بصحيح ، ولا يليق بذوي المروءات ، فأحرى بخير البريات ، وأن تلك الآية إنما تفسيرها ما حُكي عن علي بن حسين .... ».أهـ
أدلة هذا المذهب :
استدل
أصحاب هذا المذهب على ما ذهبوا إليه ، بأدلة منها
:
الدليل
الأول : أن الله تعالى أخبر أنه مُظهِرٌ ما كان يخفيه النبي
r
، فقال:﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ ، ولم يُظهرْ
سبحانه غير تزويجها منه ، حيث قال :﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِّنْهَا وَطَرًا
زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ ، فلو كان الذي أضمره رسول الله
r
محبتها أو
إرادة طلاقها ؛ لأظهر الله تعالى ذلك ؛ لأنه لا يجوز أن يُخبر أنه
يُظهرِهُ ثم
يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عُوتِبَ على إخفاء ما أعلمه
الله إياه : أنها
ستكون زوجة له ، لا ما ادعاه هؤلاء أنه أحبها ، ولو كان هذا هو الذي
أخفاه لأظهره
الله تعالى كما وعد .
الدليل
الثاني : أن الله تعالى قال بعد هذه الآية
:﴿مَّا
كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ ﴾
وهذه الآية تدل على أنه rلم
يكن عليه حرج في زواجه من زينب رضي
الله عنها ، ولو كان على ما روي من أنه أحبها وتمنى طلاق زيدٍ لها ،
لكان فيه أعظم
الحرج ؛ لأنه لا يليق به مدَّ عينيه إلى نساء الغير ، وقد نُهي عن
ذلك في قولـه
تعالى:﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ .
الدليل
الثالث : أن زينب رضي الله عنها تعتبر بنت عمة النبيr،
ولم يزل يراها منذ ولِدَت، وكان معها في كل وقت وموضع ، ولم يكن حينئذ حجاب
، وهو الذي زوجها لمولاه زيد ، فكيف تنشأُ معه ، وينشأُ معها ،
ويلحظها في كل ساعة
، ولا تقع في قلبه إلا بعد أن تزوجها زيد، وقد كانت وهبت نفسها
للنبي
r
وكرهت غيره ، فلم تخطر بباله صلى الله عليه وسلم ، فكيف يتجدد لها هوىً لم يكن
، حاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك ، وهذا كله يدل على بطلان القصة
، وأنها مختلقة
موضوعة عليه r.
الدليل
الرابع : أن الله تعالى بيّن
الحكمة من زواجه
r
بزينب ، فقال:﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا
وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ فِي
أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ ،
وهذا تعليل صريح
بأن الحكمة هي قطع تحريم أزواج الأدعياء ، وكون الله هو الذي زوجه
إياها لهذه
الحكمة العظيمة ، صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها ،
التي كانت سبباً
في طلاق زيد لها ، كما زعموا ، ويوضحه قولـه تعالى:﴿ فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ
مِّنْهَا وَطَرًا ﴾ ؛ لأنه يدل على أن زيداً قضى وطره منها ، ولم تبق له بها حاجة ،
فطلقها باختياره .
المذهب الثاني : قبول هذه الروايات واعتمادها ، وجعلها سبباً في
نزول الآية .
ويرى
أصحاب هذا المذهب : أنَّ النبي
r
وقع منه استحسان لزينب
، وهي في عصمة زيد ، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ،
ثم إن زيداً لما
أخبره أنه يريد فراقها ، ويشكو منها غلظة قول ، وعصيان أمر ، وأذىً
باللسان ،
وتعظماً بالشرف ، قال له : اتق الله فيما تقول عنها ، و أمسك عليك
زوجك . وهو يخفي
الحرص على طلاق زيدٍ إياها ، وهذا هو الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه
لزم ما يجب من
الأمر بالمعروف ، قالوا : وخشي النبي
r
قالة الناس في ذلك ،
فعاتبه الله تعالى على جميع هذا .
وهذا
المذهب روي عن : قتادة ، وعبد
الرحمن بن زيد بن أسلم ، وعكرمة ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، ومقاتل ،
والشعبي ،
وابن جريج . وهو اختيار : ابن جرير الطبري ، والزمخشري ، والبيضاوي
، وأبي
السعود
، وابن جزي ، والعيني ، والسيوطي .
قال ابن جرير الطبري :« ذُكِر أن النبيr رأى زينب بنت جحش فأعجبته ، وهي في حبال مولاه ، فألقي في نفس زيد كراهتها ، لما علم الله مما وقع في نفس نبيه r ما وقع ، فأراد فراقها ، فذكر ذلك لرسول الله r ، فقال له رسول الله r : أمسك عليك زوجك ، وهو r يحب أن تكون قد بانت منه لينكحها ، واتق الله ، وخفِ الله في الواجب له عليك في زوجتك ، ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ يقول: وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها ، لتتزوجها إن هو فارقها ، والله مبدٍ ما تخفي في نفسك من ذلك ، ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾ يقول تعالى ذكره : وتخاف أن يقول الناس أمر رجلاً بطلاق امرأته ونكحها حين طلقها ، والله أحق أن تخشاه من الناس ».أهـ
أدلة
هذا المذهب :
استدل
أصحاب هذا المذهب على ما ذهبوا إليه ، بأدلة منها
:
الدليل
الأول :الروايات الواردة في سبب نزول الآية ، والتي فيها التصريح بما
قلنا.
واعتُرِضَ : بأن هذه الروايات ضعيفة ، وليس فيها شيء يصح
.
الدليل
الثاني : أنه قد روي عن عائشة ، وأنس - رضي الله عنهما - أنهما
قالا :«
لَوْ
كَانَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ:﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ
وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَاهُ ﴾ ». قالوا : وهذا يدل على أنهr
وقع منه حبٍ لزينب ،
وأنه كان يخفي ذلك ، حتى أظهره الله تعالى
.
واعتُرِضَ : بأن مراد عائشة ، وأنس
رضي الله عنهما : أن رغبة النبي
r
في تزوج زينب ، كان سراً في
نفسه لم يُطلِعْ عليه أحداً ، إذ لم يؤمر بتبليغه إلى أحد ، وعلى
ذلك السر انبنى ما
صدر منه لزيد في قوله :﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ ، ولما طلقها
زيد ورام
تزوجها ، علم أن المنافقين سيرجفون بالسوء ، فلما أمره الله بذكر
ذلك للأمة ،
وتبليغ خبره ، بَلَّغَهُ ولم يكتمه ، مع أنه ليس في كتمه تعطيل شرع
، ولا نقص مصلحة
، فلو كان كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية ، التي هي حكاية
سِرٍّ في نفسه ،
وبينه وبين ربه تعالى ، ولكنه لما كان وحياً بلغه ؛ لأنه مأمور
بتبليغ كل ما أنزل
إليه)[35].
ثم رجح الشيخ القصير؛ فقال:
(الحق
أن هذه القصة مختلقة موضوعة على النبيr
، وأن الآية لا يصح
في سبب نزولها إلا حديث أنس رضي الله عنه ، وهذا الحديث ليس فيه شيء
مما ذكر في
هذه القصة ، فيجب الاقتصار عليه ، وطرح ما سواه من الروايات الضعيفة
.
ومما
يدل
على
وضع هذه القصة :
الدليل
الأول : أنها لم تُروى بسند متصل صحيح ، وكل
الروايات الواردة فيها ، إما أنها مرسلة ، أو أن في أسانيدها ضعفاء
ومتروكين .
الدليل
الثاني : تناقض روايات هذه القصة واضطرابها ، ففي رواية محمد بن يحيى
بن حبان : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يطلب زيداً في بيته ،
وأن زينب خرجت له
فُضلاً متكشفة ، وأما رواية ابن زيد ففيها أن زينب لم تخرج إليه ،
وإنما رفعت الريح
الستر فانكشفت وهي في حجرتها حاسرة ، فرآها النبي
r
، وتأتي رواية
أبي بكر بن أبي حثمة فتخالف هاتين الروايتين وتدعي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم
استأذن عليها ، فأذنت له ولا خمار عليها، وهذا الاضطراب والتناقض
بين الروايات يدل
دلالة واضحة على أن القصة مختلقة موضوعة
.
الدليل
الثالث : أن هذه الروايات
مخالفة للرواية الصحيحة الواردة في سبب نزول الآية ، والتي فيها أن
زيداً جاء
يشكو للنبي
r
زينب ، ولم تذكر هذه الرواية شيئاً عن سبب شكواه ،
وهي صريحة بأنه جاء يشكو شيئاً ما ، وأما تلك الروايات الضعيفة
فتدعي أن زيداً
عرض طلاقها على النبي
r
نزولاً عند رغبته ، لما رأى من تعلقه بها
، وهذا يدل على ضعف هذه الروايات ووضعها
.
الدليل
الرابع : أن هذه الروايات فيها
قدح بعصمة النبي
r
، ونيل من مقامه الشريف ، فيجب ردها وعدم
قبولها ، وتنزيه مقام النبي
r
عن مثل هذه الأكاذيب المختلقة
الموضوعة .
الدليل
الخامس : أن الآيات النازلة بسبب القصة ليس فيها ما يفيد أن
النبيr
وقع منه استحسان لزينب رضي الله عنها ، وقد تقدم وجه
دلالتها على هذا المعنى ، في أدلة المذهب الأول ، والله تعالى أعلم)[36]
ا
هـ.
فلا مجال بعد ذلك للاحتجاج بهذه الأكاذيب للقدح –تقليداً للمستشرقين- في النبيr .
الشبهة الثانية: أن هند بنت عتبة رضي الله عنها بقرت بطن حمزة رضي الله عنه ولاكت كبده:
وجوابها ببيان المرويات التي رويت في هذا الباب، وأيها الصحيح وأيها الذي لا يصح،
وذلك على النحو التالي:
(أولاً : ذكر المرويات الصحيحة في الموضوع:
1 - أخرج البخاري في صحيحه [37]و أحمد في مسنده [38] والبيهقي في الدلائل [39] و الطبري في تاريخه مختصراً [40]و ابن إسحاق بسند البخاري و حديثه [41]، من حديث وحشي نفسه الذي رواه عنه جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال : خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى الشام ، فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله : هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة ؟ قلت : نعم ، و كان وحشي يسكن حمص ، قال : فسألنا عنه فقيل لنا : هو ذاك في ظل قصره كأنه حَميت – أي : زق كبير مملوء - ، قال فجئنا حتى وقفنا عليه بيسير فسلمنا ، فرد السلام ، قال : و عبيد الله متعجر بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه و رجليه ، فقال عبيد الله : يا وحشي أتعرفني ؟ قال : فنظر إليه ثم قال : لا والله ، إني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها أم قتال بنت أبي العيص ، فولدت له غلاماً بمكة فكنت أسترضع له – أي أطلب من يرضعه - ، فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه فلكأني أنظر إلى قدميك – زاد ابن إسحاق : و الله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى ، فإني ناولتكها وهي على بعيرها فأخذتك فلمعت لي قدمك حين رفعتك ، فما هي إلا أن وقفت عليّ فعرفتها ، قال الحافظ : و هذا يوضح قوله في رواية الباب (فكأني أنظر إلى قدميك) يعني أنه شبه قدميه بقدم الغلام الذي حمله فكأنه هو ، و بين الرؤيتين قريب من خمسين سنة ، فدل ذلك على ذكاء مفرط ومعرفة تامة بالقافة . [42]
قال : فكشف عبيد الله عن وجهه ثم قال : ألا تخبرنا بقتل حمزة ؟ قال : نعم ، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ، فقال لي مولاي جبير بن مطعم : إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر ، قال : فلما أن خرج الناس عام عينين – وعينين جبل بحيال أحد بينه و بينه واد – خرجت مع الناس إلى القتال ، فلما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال : هل من مبارز ؟ قال : فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فقال : يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور ، أتحاد الله و رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ثم شد عليه ، فكان كأمس الذاهب – أي صيره عدماً و هي كناية عن قتله – قال : و كمنت لحمزة تحت صخرة ، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته – عانته ، و قيل ما بين السرة والعانة – حتى خرجت من بين وركيه ، قال : فكان ذاك العهد به ، فلما رجع الناس رجعت معهم ، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام ، ثم خرجت إلى الطائف ، فأرسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً ، فقيل لي : إنه لا يهيّج الرسل ، قال : فخرجت معهم حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآني قال : أنت وحشي ، قلت : نعم ، قال أنت قتلت حمزة ؟ قلت : قد كان من الأمر ما بلغك ، قال : فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني ؟ - وفي رواية عند الهيثمي في المجمع [43]و الطبراني في الكبير [44] بإسناد حسن من حديث وحشي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : وحشي ؟ قلت : نعم ، قال : قتلت حمزة ؟ قلت : نعم ، و الحمد لله الذي أكرمه بيدي ولم يهني بيده ، فقالت له قريش – أي للنبي صلى الله عليه وسلم - : أتحبه و هو قاتل حمزة ؟ فقلت : يا رسول الله فاستغفر لي ، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ثلاثة ، ودفع في صدري ثلاثة و قال : وحشي أخرج فقاتل في سبيل الله كما قاتلت لتصد عن سبيل الله - . قال : فخرجت ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب ، قلت : لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة ، قال : فخرجت مع الناس ، فكان من أمره ما كان ، قال : فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس – أي لونه مثل الرماد من غبار الحرب - ، قال فرميته بحربتي ، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه ، قال : ووثب رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته ، قال : قال عبدالله بن الفضل : فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر قول : فقالت جارية على ظهر بيت : وا أمير المؤمنين قتله العبد الأسود .
2 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : كان حمزة يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين و يقول : أنا أسد الله . ابن سعد [45]و الحاكم [46]و صححه و وافقه الذهبي ، و انظر سير أعلام النبلاء[47].
3 - ومن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : من رأى مقتل حمزة ؟ فقال رجل أعزل : أنا رأيت مقتله ، قال : فانطلق أرناه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على حمزة فرآه وقد شق بطنه ، و قد مثل به ، فقال : يا رسول الله ، مثل به والله ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينظر إليه ، و وقف بين ظهراني القتلى فقال : أنا شهيد على هؤلاء ، كفنوهم في دمائهم فإنه ليس جرح يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يدمي ، لونه لون الدم ، و ريحه ريح المسك ، قدموا أكثرهم قرآناً فاجعلوه في اللحد . المطالب العالية [48] وقال الهيثمي في المجمع [49] : رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح . و لفظة ( أنا شهيد على هؤلاء ) أخرجها البخاري [50] و أبو داود [51]و الترمذي [52] والنسائي [53]وابن ماجة[54]. من حديث جابر .
4 – و في رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يلتمس حمزة ، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده و مثل به ، فجدع أنفه و أذناه . و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما به : لولا أن تحزن صفية ، و يكون سنّة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير ، و لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن ، لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم ، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم و غيظه على من فعل بعمه ما فعل ، قالوا : والله لئن أظفرنا الله بهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب . رواه ابن إسحاق بإسناد منقطع ،[55] و روي عن طريقه و عن طريق آخرين و كلها بأسانيد ضعيفة ، و لهذا الحديث شواهد..).
1 - روى موسى بن عقبة ، أن وحشياً بقر عن كبد حمزة وحملها إلى
هند بنت عتبة فلاكتها فلم تستطع أن تستسيغها . ذكره ابن كثير في البداية والنهاية[56]
دون إسناد ، فهو ضعيف .
2 - وروى ابن إسحاق أن هنداً هي التي بقرت عن كبد حمزة ، و زاد أن هنداً اتخذت من
آذان الرجال و أنفهم خدماً ( أي خلاخل ) و قلائد ، و أعطت خدمها و قلائدها و قرطيها
وحشياً . ابن هشام[57]
بإسناد منقطع موقوف على شيخه ابن كيسان ، فهي ضعيفة .
3 - و روى الواقدي أن وحشياً عندما قتل حمزة حمل كبده إلى مكة ليراها سيده جبير بن مطعم . المغازي [58]، والواقدي متروك ، فروايته ضعيفة جداً .
4 - و ذكر الشامي أن الواقدي والمقريزي – في الإمتاع – رويا أن وحشياً شق بطن حمزة وأخرج كبده و جاء بها إلى هند فمضغتها ثم لفظتها ، ثم جاءت معه إلى حيث جثة حمزة ، فقطعت من كبده و جدعت أنفه و قطعت أذنيه ، ثم جعلت مَسَكَتين ومعضدين و خدمتين حتى قدمت بذلك مكة . سبل الهدى والرشاد[59] . و لعل رواية الواقدي و المقريزي التي أشار إليها الشامي تفيد الجمع بين روايتي ابن عقبة وابن إسحاق ، وتوافقهما في المضمون . و هي ضعيفة .
و ختاماً أحبتي في الله نستطيع أن نقول : أنه من خلال الجمع بين الروايات الصحيحة والضعيفة ، نخرج بملاحظتين :-
الأولى : أن التمثيل بجثة حمزة فقد ثبت بطرق صحيحة كما ذكرنا ، مما يدل على أن قصة بقر كبد حمزة – التي ذكرها أهل المغازي والسير – لها أصل .
الثانية : أن هنداً بريئة من هذا الفعل المشين ، و ذلك لضعف جميع الطرق التي جاءت تفيد بأن هنداً هي التي قامت ببقر كبرد حمزة والتمثيل بجثته .
هذا والله أعلم بالصواب و صلى الله على نبينا محمد و على آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين)[60] .
[1] انظر ذكره لهذه الشبهة في المواضع التاية :النص المؤسس 1/20 وكذلك 2/372.
[2] فتح الباري: ابن حجر ج1، ص17. بواسطة (جمع القرآن الكريم) للدكتور فهد الرومي ص 19:
[3] المص المؤسس 2/372
[4] انظر عرض الكتاب من هذا البحث ص
([5]) نقلا عن محمد صالح البنداق، مرجع سابق، ص 108 .
([6]) غراب، مرجع سابق، ص 112 .
([7]) جولدتسهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 12، بترجمة محمد يوسف موسى وآخرون، القاهرة 1948م . وهذا النقل عن المسستشرقين كله بحواشيه من بحث نعنوان( ) مقدم لندوة العناية بالقرآن الكريم في المملكة عام1421هـ ص 60-61.
([8]) جولد تسهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 15 مرجع سابق، والمعنى نفسه أورده بلفظ مقارب في (( مذاهب التفسير الإسلامي ))، ص 75، بترجمة عبد الحليم النجار، القاهرة 1955م . نقلته بواسطة بحث: ( )
[9] (الإسراء : 88)
[10] (النساء : 82)
[11] (العنكبوت:48)
[12] (النحل:103)
[13] انظر بحث مقدم لندوة العناية بالقرآن الكريم عنوانه:( )ص99-100.
([14]) التهامى النقرة ، سيكولوجية القصة في القرآن ، ص 80 ، الشركة التونسية للتوزيع . تونس 1974م .
[15] (يوسف/3)
[16] (الكهف/13)
([17]) سيد قطب ، التصوير الفني في القرآن ، ص 156 ، دار المعارف ، القاهرة 1966م .
[18] (الشمس/12)
([19]) حسين علي محمد ، القرآن ونظرية الفن ، ص 112 ، القاهرة 1413 هــ ـ 1992م .
([20]) التهامى نقرة ، سيكلوجية القصة في القرآن ، ص 97 . مرجع سابق .
حسين علي محمد ، القرآن ونظرية الفن ، ص 113 . مرجع سابق .
([21]) سيد قطب ، في ظلال القرآن ( 2 / 217 ) ، دار الشروق . القاهرة 1402 هــ ـ 1982 م .
([22]) عبد الجواد المحص ، أدب القصة في القرآن الكريم ، ص 255 ، الدار المصرية بالاسكندرية 1420هــ ـ 2000م .
([23]) التهامى نقرة ، سيكلوجية القصة في القرآن ، ص 91 .
[24] (الفجر/6ـ14)
([25]) سفر التكوين ( 46 / 29 ـ 30 ) .
([26]) حسين محمد علي ، القرآن ونظرية الفن ، ص 113 ، مرجع سابق .
[27] (طه/98)
[28] (الكهف:26)
[29] (يوسف :100)
[30] (مريم/34 ـ 35)
[31] هذا الفصل كاملاً من بحث( )ص103-110 بتصرف.
[32] النص المؤسس 1/
[33] من مقال للشيخ أحمد في موقع :ملتقى أهل التفسير، بواسطة شبكة الجامع الإسلامية على الشبكة: http://www.aljame3.com/modules.php
[34] من مقال للشيخ أحمد في موقع :ملتقى أهل التفسير، بواسطة شبكة الجامع الإسلامية على الشبكة: http://www.aljame3.com/modules.php
[35] من مقال للشيخ أحمد في موقع :ملتقى أهل التفسير، بواسطة شبكة الجامع الإسلامية على الشبكة: http://www.aljame3.com/modules.php
[36] من مقال للشيخ أحمد في موقع :ملتقى أهل التفسير، بواسطة شبكة الجامع الإسلامية على الشبكة: http://www.aljame3.com/modules.php
[37] ( برقم 4072)
[38] (3/501)
[39] (3/241)
[40] (2/516-517 )
[41] أنظر ابن هشام (3/102-105)
[42] الفتح (7/426)
[43] ( 6/121)
[44] ( 22/139)
[45] (3/ 6 )
[46] (3/194)
[47] (1/177)
[48] ( برقم 4325 )
[49] ( 6/ 119)
[50] ( برقم 4079)
[51] برقم 3138)
[52] ( برقم 1036)
[53] (3/62)
[54] ( برقم 1514)
[55] أنظر ابن هشام (3/138-139)
[56] (4/43)
[57] (3/133)
[58] (1/332)
[59] (4/321)
[60] الموضعين من مقال على الشبكة بعنوان: (تبرءة هند بنت عتبة من دم أسد الله حمزة)، على موقع: http://arabic.islamicweb.com/shia/hind.htm